أخبار عاجلة

كازاخستان تنهض بقوّة من تحت يورانيوم (450) تجربة نووية سوفييتية على أرضها وتوثق حكايات الضحايا بألمٍ وأملٍ (الحلقة 3)

هرمنا – بقلم: المستشار محمد الملكاوي

• المقدمة:
عندما دخلت معرض ضحايا التجارب النووية في مركز الطب النووي ومتحف المعهد الطبي في مدينة (سيمي) بكازاخستان، أحسست برهبةٍ عظيمة تملكتني من مشاهدة أشكال ضحايا التجارب النووية على أرض كازاخستان، فقد واجهت في مكان واحدٍ قسوة الإنسان المتسلّح بالظلم والجبروت والأسلحة النووية، مقابل ضعف الإنسانية وهشاشتها والمتمثلة بالبشر الأبرياء ضحايا التجارب النووية، الذين لم يكن بأيديهم حول ولا قوة إلا الإذعان والاستسلام للموت بالرصاص إذا رفضوا، أو الموت بالإشعاعات النووية إذا وافقوا. (خياران أحلاهما مُرُّ).
ولا أتذكّر هل قرأت سورة الفاتحة من القرآن الكريم على أرواح ضحايا التجارب النووية في كازاخستان، أو هل قرأت دعاء الدخول إلى المقابر، لأني كنت حينها في حضرة أمواتٍ جمدوا حركة لساني وقطعوا البث الفكري بين قلبي وعقلي، وقادوني إلى عهود مظلمة في تاريخ مظلم وسط قلوب مظلمة في القرن الماضي العشرين، رغم أني في القرن الحادي والعشرين الذي يعتبر قرن التقدم العلمي في مواجهة أخطر جائحة واجهت البشرية هي جائحة كورونا التي سيطرت على العالم، وحصدت حتى اليوم ما يقارب ال (4.7) مليون وفاة، وحوالي رُبع مليار إصابة بفيروس كورونا، وتعافي حوالي (202) مليون إصابة من المرض.

• البشر أشد قسوة من الغيلان ودراكوا والتنين الناري الحارق
لم أرَ في حياتي ضحايا تجارب نووية أو حروب بأسلحة نووية كالتي حدثت في هيروشيما وناغازاكي في اليابان، سوى تلك التي شاهدتها في برامج تلفزيونية أو على الكمبيوتر أو على هاتفي الخلوي، ولكن في مدينة (سيمي) الكازاخستانية لم يفصلني عن الضحايا سوى حاجز زجاجي بسيط، فشعرت حينها بأن إنسانية الإنسان تُنتهك لأجل سطوة وقوة ورفاهية إنسان آخر في دولة أو دولٍ أخرى، وأحسست أيضاً بأن بعض البشر هم أشد قسوة من الوحوش الخرافية والغيلان (جمع غول) ودراكولا الذي يتلذذ هو وأتباعه بشر دماء البشر، والتنين الناري الطائر الذي يقتل المئات بنفخة نار واحدة، والحيتان القاتلة وأسماك القرش التي تجوب المحيطات، وتتلذذ بأكل الصيادين التائهين في ظلمة الليل في أعماق البحر، لا بل إني وجدت أن (هولاكو) الذي دمر كل مدينة في طريقه واستباحها، كما فعل من دمار شامل في بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، هو أقل ضرراً من علماء وقادة حروب طوّعوا اليورانيوم ليكون سلاحهم النووي للسيطرة على العالم أو على جزء منه، وقتل الأبرياء دون حِسابٍ أو عِقابٍ.

• دموع صحفية جزائرية بنكهة كويتية
وللوهلة الأولى اعتقدت أني الصحفي الوحيد الذي غرق في أهوال (جمع هول) ما رأي من ضحايا التجارب النووية في ذلك المعرض، لأفاجأ بأن دموع زميلتي الصحفية الجزائرية التي تعمل في (صحفية النهار) الكويتية سميرة فريمش قد انهارت من عينيها من قسوة ما شاهدت من صور للضحايا بأشكال لا يمكن أن تخطر على ذهن أحد من البشر. وصدقوني بأني حاولت مراراً أن أدور وألتفت حول كل ضحية موجودة في الصندوق الزجاجي، لعلي أجد زاوية أخرى للضحية تحكي قصة جديدة عن وحشية ما حدث، إلا أنني لم أجد سوى قصة واحدة وهي أن الذين قاموا بالتجارب النووية أو الذين استخدموا الأسلحة النووية هم مجرمين كاملي الإجرام بحق كامل البشرية منذ عهذ أبونا آدم عليه السلام وحتى يوم القيامة.
وحينذاك تراءت لي في مخليتي وأنا في معرض ضحايا التجارب النووية السوفييتية على أرض كازاخستان في مدينة (سيمي)، دولة الجزائر وهي الدولة العربية الوحيدة التي أجريت فيها تجارب نووية، حيث أجرت فيها فرنسا ست تجارب نووية بدءاً من عام 1960 أي قبل سنتين من استقلالها عام 1962، ولكن فرنسا فرضت على الجزائر بموجب معاهدة الاستقلال الاستمرار في إجراء التجارب النووية حتى عام 1966، لهذا لم يكن غريباً أن تنهمر دموع جينات الزميلة سميرة فريمش حينذاك بسبب عمق جزائريتها في دمائها، وبسبب عراقة كويتية إعلامها، وفي قلبها العاشق للكويت.

• الضحايا الكازاخ أصل مسلسلات الفضاء Sci-Fi
وكلما أمعنت في تحديقي العميق بصور ضحايا التجارب النووية في كازاخستان كلما تذكرت أن كاتب ومخرج ومنتج مسلسل ستار تريك (Star Trek) الأمريكي الهوليوودي الشهير (على سبيل المثال) استوحوا عملية تشخيص صور الفضائيين بأشكالهم الغريبة علينا كبشر من صور الضحايا الكازاخ في معرض المعهد الطبي النووي في مدينة (سيمي)، فأشكال الضحايا في الواقع لا تختلف كثيراً عن أشكال الفضائيين التي نشاهدها في المسلسلات (العلمية الخيالية الفضائية Sci-Fi) الأمريكية الشهيرة، فهذه الضحية بعين واحدة، وهذه رأسها معلّق بالجسم بطريقة مرعبة، وتلك الضحية شعرها مخيف، وضحية آخرى أمعاؤها في الخارج وتعمل بطريقة لا علاقة لها بخلق الله عز وجل (الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم) إلى غير ذلك من صور الضحايا التي تشاهدونها في صور التقرير وفي الفيديو المُرفق، والتي يصعب شرحها والتعليق عليها لفضاعة ما فيها من مناظر مخيفة ومؤلمة في آن واحد.
والفارق الكبير الذي أراح ضميري كإعلامي في فريق إعلامي دولي، وكإنسان أردني بسيط، وملكاوي فلاح صادق، وكعربي ومسلم بأن جينات الكازخ هي أقوى وأصلب مما يعتقد البعض، لأنهم صمدوا في وجه (450) تجربة نووية سوفييتية على أرضهم، وكانت لدى رئيسهم الأول نور الدين نزارباييف الجرأة التي استوحاها من النسر الكازاخي الذهبي ليقول للعالم أنه اتخذ قراراً وطنياً استراتيجياً بالاستغاء عن رابع أكبر ترسانة نووية في العالم، لا بل أنه ومعه شعب الكازاخ الذي يضم ما يزيد على (130) قومية وإثنية وجماعة عِرقية وطائفة هم مع السلام المحلي والإقليمي والدولي، وأنهم ضد التجارب والأسلحة النووية، وأن هذه الدولة التي استقلت حديثاً عام 1971 أي قبل (30) عاماً ستقود الحِراك العالمي لمناهضة إجراء التجارب النووية، واستخدام والأسلحة النووية.

• الصدمة والدهشة تخيّم على وجوه الإعلاميين من هول ما شاهدوا من صور ضحايا التجارب النووية
ولم يكن مستغرباً أن تلتقي عيونناً دهشة وغرابة ورُعباً كصحفيين وإعلاميين عرب مع زملائنا في الإعلام الدولي من قسوة وخطورة ما رأينا من صور للضحايا، فقد سرنا في حالة صمت وكأننا نشيّع جنازة شخص عزيز علينا إلى مثواه الأخير، ولكن بدلاً من ذلك كنّا في طريقنا إلى الحافلة التي ستنقلنا إلى مطار (سيمي) لنتوجه عائدين إلى العاصمة نور سلطان.
فشاهدت الزميل د. عبدالرحيم عبدالواحد مدير مركز ميديا (Media Hub) في دبي وهو واجم على نفسه وكأنها نهاية الكون لأن كازاخستان بنظره تستحق أن تكون دولة الحياة، والزميل منذر الزغول ناشر موقع عجلون نيوز يحمل حقيبته وكأنه يودع ضحايا التجارب النووية، فيما انبرت الزميلة الجزائرية سميرة فريمش من صحيفة النهار الكويتية تُحدث نفسها على جنبٍ عن فضاعة ما رأت من جرائم بحق إنسانية الإنسان، وواصل الزميل أحمد جمال من وكالة أنباء الإمارات (وام) هدوءه المُعتاد الذي تعوّدنا عليه طوال الرحلة وكأنه يريد أن يصنع جسراً من الأمل أمامنا. كما واصل الزميلان المصوران الإعلاميان ماهر الملاح من (وام) وعامر الزغول من (عجلون نيوز) التقاط الصورة والفيديوهات من اللحظات الأخيرة لهذه الزيارة. وهذا كان حال كل الصحفيين والإعلاميين في هذه الرحلة من مختلف الدول التي تمثل العديد من القارات أيضاً.

• شهادة بِحكمة الرؤية الكازاخية
وهُنا أود أن أشير إلى حِكمة الدولة الكازاخية من خلال وزارة الخارجية بأنهم وضعوا برنامج رحلة وفد الصحفيين والإعلاميين الدولي بطريقة تسلسلية تجعلنا نعيش الأحداث في الميدان، حيث زرنا على الواقع مكان إجراء التجارب النووية في سيميبالاتينسك، ومن ثمّ زيارة بحيرة تشاجان الذرية (تشاغان أو بحيرة بالابان) التي هي واحدة من أماكن التجارب النووية، ومن ثمّ زيارة معرض ضحايا التجارب النووية.
وفي ذات الوقت أرادت الدولة الكازاخستانية أن تُري الوفد الصحفي والإعلامي حاضر ومستقبل الدولة من خلال زيارات متعددة كان أهمها زيارة النصب التذكاري (أقوى من الموت)، ومتحف الشاعر الكازاخي (آباي) والمتحف الوطني ومعرض إكسبو 2017 وغيرها من الأماكن التي تشهد على أن كازاخستان التي شهدت انطلاق أول رائد فضاء في العالم وهو الروسي (يوري غاغارين) من محطة الفضاء الدولية في مدينة (بايكونور) عام 1961 تنطلق بقوة نحو مدارات العِلم والتقدم والعمل في دولة خرج من على أرضها علماء الفارابي وقادة كالظاهر بيبرس، وتريد ن تعانق المستقبل بقوة وشغف شعبها الكازخي الذي يعتز بالفروسية مثلما يتعتز بحضارة القرن الحادي والعشرين.

• خِتاماً … كازاخستان ملتقى الحضارات والثقافات الإنسانية
لهذا فإن كازاخستان البالغ عدد سكانها (19) مليوناً والتي تعتبر تاسع أكبر دولة في العالم، لم تقهرها التجارب النووية ال (450) خلال الحقبة السوفييتية، هذا على الرغم من فضاعة وفضائح التجارب النووية السوفييتية التي خلّفت ما يزيد على المليون ونصف المليون ضحية بسببها، لهذا هي دولة تعتز بأنها ملتقى الحضارات والثقافات الإنسانية والتي تضم حوالي (9) آلاف معلمٍ حضاري وأثري وإنساني، وهي موطن الزهور والورود حيث تم حصر ما يزيد على (1300) نوع من الزهور والورود فيها، وحوالي (2000) نوع من الأحياء البرّية، هذا علاوة على أنها تضم حوالي (7) آلاف بحيرة تشكّل طبيعتها الساحرة وأنهارها وغاباتها والكثيفة وأنهارها الجليدية، وسهوبها الطويلة وسهولها الممتدة وخيولها الأصيلة ونسورها الذهبية التي تربط الأرض بالسماء، وتوائم بين الفروسية والعلم والأمل بمستقبل مشرق لشعب الكازاخ. (م. م)

• الحلقة القادمة
في الحلقة القادمة (الرابعة) بإذن الله سأتحدث عن القواسم المشتركة بين جمهورية كازاخستان والمملكة الأردنية الهاشمية، وكيف علينا أن نقيم توأمة بين دولتين تربطهما أواصر مشتركة وتكامل في الملفات الاقتصادية والتنموية والاستثمارية والزراعية والسياحية والثقافية والعلمية، وبين شعبين شقيقين يبحثان عن السلام والحياة الكريمة والعمل المخلص، بحيث نستفيد من ميزة طبيعتها كازاخستان بأنهارها الجليدية وبحيراتها وسهولها وغاباتها، مثلما يستفيد الكازاخيون من ميزة الأردن بدفء الأغوار والبحر الميت شتاء، وعراقة البتراء ووادي رم ومدن الديكابولس اليونانية القديمة وشموخ الجبال التي تربط الأردن بالسماء والفضاء والأمل.

شاهد أيضاً

الملك يزور البادية الوسطى ترافقه الملكة وولي العهد

هرمنا الاخباري-زار جلالة الملك عبدالله الثاني ترافقه جلالة الملكة رانيا العبدالله، وسمو الأمير الحسين بن …