من ذكريات الصحافة …الصعود ألي جمال الشواهين واسأمه الرحيمي

هرمنا – خالد اللوباني
عندما يدنو الموت من حواف الروح وتصبح آيلاً للسقوط تحتاج دوما إلى جدار يسندك في مطحنة الحياة.. وفي الوسط الصحفي أنت بالتأكيد بأمس الحاجة الى مثل أعلى يقيك شر السقوط والإنهيار الذي يجعلك تشعر بالخزي من نفسك لبقية حياتك.ذات صباح وبعد أن غادر ولدي ربيع الى مدرسته وفيما كنت أستعد للانطلاق الى عمان لعملي في الجريدة فوجئت بأن “البريزة” العشرة قروش مصروف ربيع اليومي لازالت على الطاولة وأظلمت الدنيا في وجهي عندما عرفت من والدته أنه تركها بشكل متعمد احساساً منه بوضعنا المادي الصعب حيث كانت الرواتب الهزيلة تتأخر لشهرين أو ثلاثة، وكانت المرة الأولى التي استمعت فيها الى مايقوله الشيخ عن السحر في الشريط المسجل الذي يبثه سائق الباص عنوة أملاً في حل سحري لوضعي والذي كان يشبه وضع كثير من الزملاء والاصدقاء، فقد كان ايجار منزل صديقي ناصر الحوراني 200 دينار وراتبه الشهري 150 دينارا ” كم ضحكنا على هذه المفارقة.. وكم بحثنا عن جواب لسؤال : كيف كنا قادرين على العيش”.وصلت الى الجريدة واتصلت بصديقي وزميل دراستي المهندس محمد عباس “ابو الفضل” وطلبت منه استدانة مبلغ 300 دينار كرأسمال لمشروع “بسطة أحذية بالة” في إربد وبكرمه اللامحدود لم يمانع ، ودخلت على رئيس التحرير الصديق جمال شواهين وابلغته قراري.. وبألم شديد وغصة في الحلق وبلهجة ابوية حانية”رغم أنه يماثلني في العمر” طلب مني الصبر وقدم لي نصيحته الذهبية بأن لا أغادر الوسط الصحفي لأن الفرصة ستأتيني فقط وأنا في خضمه.منذ اللحظة الأولى للقائي بجمال تبينت لي ثقافته الواسعة وكانت الأيام التالية كفيلة بأن تظهر لي جوانب أخرى وهي الأهم بالنسبة لي والمتمثلة بأنه رجل لايخضع للابتزاز والمساومات لايفكر مرتين عندما يتعلق الأمر بالمبادئ، فعندما حاول اصحاب الجريدة اهانته رد لهم الصاع صاعين وترك كرسي رئاسة التحرير غير آسف عليه وقفز في الفراغ دون ان يفكر كيف سيعيش وأسرته..وعندما لم يجدوا أمامهم خيارا اعادوا التفاوض معه على رئاسة تحرير صحيفة البلاد ولم يمض عليه وقت طويل في هذا الموقع حتى وقعت حادثة الخيمة عندما اعتصم عدد من الصحفيين المفصولين من جريدة العرب اليوم ” واصحابها نفس ملاك جريدة البلاد” احتجاجا على قرار فصلهم فما كان منه الا ان توجه الى الخيمة ليشارك المفصولين الاحتجاج وكانت النتيجة توقيع قرار فصله ايضا من رئاسة تحرير جريدة البلاد. جمال شواهين كان يذهب الى دمشق ويجري استقباله كالأبطال في الوقت الذي كان الذهاب الى دمشق “له ماعليه”ويترتب عليه الكثير، لم يكن يذهب الى هناك كتابع لأحد بل انطلاقا من قناعاته العروبية وعندما قام النظام السوري بإطلاق الرصاص على شعبه في حادثة”مسبوقة” لم يفكر جمال مرتين في الاصطفاف الى جانب الشعب السوري دون التفكير بأي مصلحة شخصية” بغض النظر عما يعتقده البعض بشأن نظام (الممانعة)”.. جمال شواهين اليوم قد يكون يعيش ظروفا مالية صعبة ضريبة موقفه في الحياة، ولكنني متأكد أنه راض عن نفسه وليس لديه مايشعره بالخزي والعار.. جمال شواهين اعتز بك وبصداقتك._ حتى اللحظة لا اذكر كيف ومتى تعرفت الى اسامة الرحيمي، ولكن كل ما اذكره انه ومنذ اللحظة الأولى اصبحنا اصدقاء نلتقي يوميا في الجريدة صباحا ومساء في جولتنا الرياضية حول البحيرة في الشارقة والتي كانت جولة ثقافية اكثر منها رياضية حيث كنت استمع بشغف الى اسامة المثقف الموسوعي وهو يقرأ كتابا ما من الذاكرة ويقدم لي قراءة نقدية متميزة وبأدب جم كان يستمع الي عندما كنت احدثه عن رواية او كتابا ما ولأكتشف في النهاية انه قد قرأ الكتاب قبلي..اسامة الرحيمي لم يكن مثقفا موسوعيا فحسب بل كان انسانا ورجل مبادئ لايقبل المساومة على شيئ، يرى ان قدره في الحياة منح القيم الجميلة مكانتها الحقيقية بغض النظر عن الثمن الذي قد يترتب عليه دفعه..رفض ان يكون واشيا كالبعض فسلطوا عليه جاهلا اعمى فاختار ان يقدم استقالته دون تفكير عندما تعلق الأمر بمهنيته وكرامته وتكرر هذا الأمر مرات عديدة معه وفي مواقع كثيرة وأسامة يرفض السقوط.. مع اسامة اشعر دوما أن مصر أم الدنيا ، فهو عاشق لمصر دونما نظرة عنصرية أو إقليمية بغيضة.. فهو كما هو يضع الأمور دوما في نصابها؛ ويبقى القلب الكبير الذي احتمي به عندما يدنو الموت من حواف الروح.
 
 


