Uncategorized

وثنية الحكم !…المحامي بشير حسن المومني

هرمنا – مقال اليوم من الوزن الثقيل قد تحتاج معه الجهات المعنية والنخب المفترضة لإعادة قراءته عدة مرات ليصبح هضمه مستساغا واستيعاب ما سيرد فيه وهو مخصص فقط لجهات التفكير الاستراتيجي وما بين السطور اكثر مما بالسطور فالاوطان مثل الاديان تتنفس وتعيش وتموت اذا لم يتم تغذيتها بالشكل الصحيح وأسوأ ما حصل لدينا في وطننا الأردني أننا حولنا الوطن الى دولة كما تحول الدين الى نظم وقوانين تحت بند ( افعل ولا تفعل ) فهذا حلال وذلك حرام فجناية الفقه على الدين تمثلت في تحويله من عالم إيماني لعالم الدين الوضعي الذي سمي شريعة فأفقد الدين جماليات الروح أما تلك الجماليات فوصل الحال ( بمرتكبيها ) درجة التكفير فكانت الصوفية في فهم السلفية ردة عن الدين مثلما حصل مع الوطن الأردني تماما عندما أصبح الانتماء مسألة خيار باعتبارها من قبيل الترف في معادلات ما يسمى ( مواطنة ) فاجتريء على الوطن تحت بند ( الدولة ) أما الدولة ففي معادلات الحكم الوثني لا تعدو كونها حالة اجرائية لا اكثر لتنظيم العلاقات ما بين السلطة والافراد ففقد الوطن قيمة امتياز الرسالة ليتحول الى قيمة السعر وامتياز المنصب والموقع فأصبح المعيار هو الانتماء لطبقة امتيازات الوظيفة لا رسالة الخدمة العامة واصبح الموظف للخدمة العامة ينظر الى عالم الامتيازات المادية لا عالم رسالته في وظيفته تجاه الغير وبتنا نتخندق في مربعات الذات والنفعية من الموقع العام واختزلنا قيمة الخدمة العامة براتب آخر الشهر فتحول الوظيفة والخدمة العامة من المفهوم الرسالي للمفهوم المادي كان من اسوأ الثقافات التي طرأت على قيم الاردنيين الجمعية لذلك من الطبيعي جدا أن تقوم الفئة الباغية مثلا بتحويل قضية التعليم بالوطن الى علاوة في عملية استكمال القضاء على الجيل وبث قيم المادية في الناشئة .. انظروا خطورة ما يجري !

تحويل الوطن من كائن حي يتنفس بالمفهوم الاعتباري الى دولة وقوانين ومؤسسات فارغة من المضمون ومهمتها تنفيذ الاجراءات والاوامر وتقديم السلعة والخدمة من أشد الامور فتكا في بناء منظومة الفساد فهذه القيم التي تأثرت بها مؤسساتنا نتيجة اشتباكها بنظريات الراسمالية والقطاع الخاص فعلت فعلها بتغيير قيم المجتمع ولعل اخطر جهة أدت الى إفساد الوطن كان القطاع الخاص الذي انشأ ثقافات المادة والربح السريع ونقلها للقطاع العام وقد ساهم هذا القطاع في عملية توثين الحكم المؤسسي وتجريده من قيمه العليا ومثاليات العمل العام لانتهازية الفرصة حتى باتت الواسطة مثلا شيئا عادية مقبولا لا بل متطلبا اجباريا للوصول حتى للحق أما تعويد الموظف العام على فكرة الاكرامية قادت بالنتيجة الى منظومة الرشوة وهكذا دواليك في عمليات ضخ ثقافات الامتياز المادية المؤدية لهدم الرسالة التي تقوم عليها فلسفة المركز العام فحلت وثنية المادة في الحكم بديلا عن سمو الرسالة المفترضة بالعمل العام وحتى المعنيين من خارج المنظومة بالشان العام الاردني فلقد ساهمت منظومة الحكم في بنائهم كطبقة فاسدة عندما جرى اغرائهم بالاموال والمكاسب والمناصب مقابل تغيير مواقفهم حتى تشكلت لدينا ثقافة الضد للمكسب وتعزيز ثقافات التذمر والاحتجاج السلبي للوصول الى نقطة الانتفاع من رفع الصوت وهذا هو الهدم بعينه للوطن ومؤسساته فجرى صناعة طبقة من عبيد المكسب كوجه اخر لوثنية الحكم ..

صناعة الاوطان تحتاج فلاسفة كما الدين تماما ففقهاء الافكار الاوائل بالدين اعتمدوا على فكر غيرهم في بناء الاستنباط الاجتهادي لكن للأسف تم لاحقا تقعيد المعرفة الدينية وقلب قواعد الاستنباط في مرحلة ما ومع ذلك فالحقيقة تفيد بأن الدين شهد مرحلة ذهبية في بناء الحضارة عندما تصدى للأفكار الدينية فلاسفة الحياة لا فلاسفة الموت وفلاسفة الجمود وقدمت مثلا مدرسة أهل الرأي منظومة حضارية قابلة للتجديد جرى شلها وضربها في عملية التقعيد عندما تم وضع قواعد للغة وقواعد للقرآن وقواعد للفقه فجرى تقعيد العقل لا بل الحجر على عقول اهل العلم وتجمد الدين مكانه واصبح البشر عاجزون عن تحريك مفردات الشارع الالهي وكذا الاوطان عندما تفتقد للفيلسوف المنظر فأي منظومة او قيمة وجودية اعتبارية تخفق عن مواكبة الحياة عند الاخفاق عن مواكبة التطوير الفلسفي الوجودي فكانت النتيجة الطبيعية حالة الجمود في المشهد الديني كما هو حال الجمود في المشهد الوطني تماما فلقد قعدنا الوطن على مقاس دستور ليصنعنا بدلا من ان نصنعه وقانون ليضبطنا بدلا من ان نضبطه على ايقاع المصلحة في حين ان العصر الذهبي لفلاسفة الاسلام مثلا كان الحكم لديهم مناطه المصلحة فأنى تكن المصلحة العامة فثم شرع الله لا العكس فالمشكلة لم تكن يوما في النص الإلهي بل في فهم هذا النص وتجميده اما في نظريات الاوطان فإن المشكلة تكون في بناء النص او غايته او ديمومته او تفسيره وصولا لتمجيده كحالة ووجه آخر لوثنية الحكم او بمعنى ادق إغلاق الحكم ..

دعوني ابسط لكم المسائل واعلم أنني اغدقت بالحالة لكن حذرت مبكرا من أن مقال اليوم من الوزن الثقيل لكن هو موجه للنخب المفكرة ابتداءا .. انظروا معي لاهمية الفكرة في انشاء الحضارة فالفلاسفة القورنائيين أسسوا لمنهج مطلق الحرية ومنتهى اللذة ووضعوا معيارا موضوعيا لسقف الحرية وهو ( الألم ) فعندما يبدأ الالم تنتهي الحرية فتطبيق حكم القانون مثلا يمثل الألم في لحظة إنزال العقوبة لذا كل ما يحرمه القانون كان لحظة انتهاء اللذة وبهذا المعنى تشكلت أقوى امبراطوريات التاريخ في اوروبا الحديثة والولايات المتحدة الامريكية التي تقوم على فكرة الحرية وتقديسها كرافعة لبناء الدولة التي تضبط المواطن بالألم لكن أساس الفكرة تبقى الحرية .. الحرية في كل شيء وهذه القيمة اكدها الشارع الإلهي الذي وصل لمرحلة أن جعل من الكفر بالإله خيارا في الحياة بلا معقب رغم انه اعظم الذنب ! ..

انظروا مثلا لفلسفة ماركس والالماني هيغل فلقد نشأ عن هذه الافكار يوما امبراطورية الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية الموازية لكتلة منتهى اللذة وانظروا مثلا لفلسفة ابن رشد التي لقنت العالم معنى العلمانية وفصل الحكم عن الدين لا الحياة فكانت باكورة انتاجها المعرفي الثورة الفرنسية التي تشربت وهضمت وترترعت على نظريات الشارح الاكبر ابن رشد الاندلسي .. هكذا هي الافكار قادرة على انتاج الاوطان والدولة ان شئتم لذلك كنا ولا زلنا ننادي بضرورة بناء رسالة للدولة الاردنية تجيب عن التساؤلات الوجودية .. انظروا مثلا اسرائيل فلقد قدمت حالتها الوجودية كحامي تقليدي لليهود في العالم بينما إيران قدمت نفسها كحامي تقليدي للشيعة في حين أن تركيا اليوم تحاول أن تقدم نفسها كبديل سني للسعودية في العالم بعد ان قررت الاخيرة تصحيح الخطأ التاريخي بفرض المذهب الوهابي .. إذن اليوم ندعو الى بناء الدولة الاردنية الرسالية التي تنقلنا وترتفع بنا الى مصاف الاوطان فالرسالة الجمعية الوجودية المتفق عليها بين ابناء الوطن هي الخطوة الاولى لمعالجة سلسلة من الكوارث التاريخية التي وقعت بها منظومة المجتمع والسلطة والمعارضة على حد سواء فجعلت من الحكم وثنية وعبودية ما انزل الله بها من سلطان ..

لدينا مشكلة حقيقية في فلسفة الدولة الوجودية انعكست بالضرورة على فلسفة الحكم حتى وصلت الى عمق تفكير الدولة برمتها وعندما نقول دولة لا نقول سلطة بل مجموع الدولة من نظم وتشريعات ومؤسسات وجهات بما فيها المعارضة التي تغدق بالوثنية واحمق جدا من يعتقد ان المعارضة بعيدة عن مشهد الوثنية باعتبارها جزءا من منظومة الحكم سلبا وايجابا وصياغة للراي العام فعندما تناويء الملك وعندما يستطيل لسان قراصنة البث المباشر على الملك فهذا يعني شيئا واحدا فقط لا غير انهم لا يرون الدولة وجودا وعدما إلا بالملك وهم بذلك لا يختلفون أبدا عما يصنف او يسمى بأنه موالاة لكن السؤال الكبير الواجب طرحه ومعالجته في هذا الاتجاه هو ( معارضة وموالاة لمن تحديدا !!!؟؟؟ ) فالملك هو رأس الدولة وركن فيها والركن اذا ما انتزع من الشيء فقد وصف الماهية فلا ملكية بلا ملك لذلك لا يجوز اختزال الدولة بالمفهوم الفلسفي والنقدي بهذا الملك حتى ان العرش ليس ملكا للملك بل هو ملك للمملكة لذا من يناويء الملك هو مناويء للركن ومن يواليه يصرف ذلك باتجاه الشخص لا الدولة لذلك كان الطرفان على نقيضي الحمق وفي الحقيقة تلك هي قمة الوثنية اما أصل الأشياء يتحدث عن مفهوم انتماء وموقف وطني فلا مع ولا ضد بل تقدر الامور بقدرها وفقا لمصلحة البلاد والعباد وهنا نعود لفلسفة الحكماء القاضية بان المصلحة هي شرع الله اينما وجدت هي الاحق بالاتباع لان ما بعدها هو الضلالة ..

في الحقيقة لقد اخفقنا جميعا في تقديم هندسة اعتقاد سليمة تجاه منظومة الحكم فعقلية شيخ القبيلة الآمر الناهي المتفرد الحكيم الملهم لاتزال تقود المشهد اما من اعتقد انه قد مارس خروجا من الصندوق بجعل الحالة تدور وفقا لمفاهيم الولاء والبراء فلقد خلط الحابل بالنابل لأن هذا المفهوم ينصرف الى فكرة الله والرسول كمفهوم للخطاب المعرفي الديني وحتى الاصلاح الذي يتم تداوله كمصطلح اليوم هو في حقيقته مرجعي ديني التاصيل وينصرف للتكوين الاخلاقي للفرد والمجتمع وتصويب التصورات عن الحياة والبعث لا عن الحكم والدولة ومن هنا وقع اصحاب هذه المصطلحات في الخلف الفلسفي والموضوعي لأن نظريات القوة والحكم لا تحتمل منظومة الاخلاق او البغضاء او التمايز المذهبي كما الدين وهذا كله يتجسد بالدولة افقيا وعاموديا لكن إخفاق المنظّر الديني المتحول سياسيا المخفق في ابتداع افكار فقهية متوائمة مع ذات الجماعات الدينية جعلها تعود في حالة الفكر والتنظير السياسي لما قبل فترة نشوء الدولة كمفهوم ذاتي فجرى إسقاط أحكام الشخص الطبيعي على الشخصية المعنوية للدولة فكان مثلا للدولة دينا وجعلوا للدين دولة وخلافة وأميرا للجماعة بديلا لأمير المؤمنين حتى استعادة وقيام ما سمي ونسب زورا وبهتانا على الدين بانه دولة !!!

القضية المعرفية هنا وفلسفة الحكم والدولة عميقة جدا تحتاج لما هو اكثر من مقال لبسطها لكن بالمجمل قدمنا لعلة توثين الحكم لذلك وجدنا ان من اغدق في العبودية للملك هو نفسه لا غيره بات شتاما لعانا للملك في مفارقة عجيبة مردها عمق الازمة الوجودية للدولة الاردنية اما هذا الشتام اللعان اعتقد انه خرج من ثوب التوثين ليسقط في اغداق لهذا التوثين لا لشيء سوى لانه اختزل الوطن والدولة والنظام بالملك وعجز واخفق في التعاطي مع القيمة الوجودية للدولة فهل هنالك ما هو اسوأ !!!؟؟؟ للأسف نعم فلم نكتف في معادلات التوثين وتعميق ازمة وثنية الحكم بالملك بل تجاوز الامر حدود المعقول عندما وصل كتابنا ومثقفينا للتعاطي مع وزير او مدير مؤسسة بالمفهوم الذاتي فصرنا نجد ان المسؤول الفلاني او العلنتاني لديه فزعة من مرتزقة اهل الاعلام والكتاب ما يعجز عنه حتى الملك فإذا شتم رأس الدولة لم يجد نصيرا في حين لو شتم وزيرا او مديرا وجدنا آلاف حسابات التواصل الاجتماعي والوكالات الاخبارية والاقلام قد جندت للدفاع عن حكيم الزمان قدس الله سره !!! نعم لهذا المستوى من الانحطاط قد وصلنا ولهذه المرحلة الكئيبة من المشهد حتى بالغنا في نظريات الاشباع السلبي تمجيدا وتحميدا في حين ان الوطن لا بواكي له واخفق الجميع في تقديم صورة دستورية متوازنة لمؤسسة الحكم وبكل حمق نجد مسؤولا يصرف رايه وقراراته بقوله .. هكذا يريد الملك !

مقالات ذات صلة